الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

الإنسَانُ المَنْسِيُّ

لن يبلغَ الواحدُ منَّا إنسانَهُ ما لم يَعِ إنْسَان غيره. أتصوَّر أنَّ هذا الشِّعار جيِّدٌ إلى حدِّ أن يخففَ عنَّا وِزْر ما تأويهِ لنا الأيَّام من مشاهدات تُضاف في نهايتِها إلى الذَّاكرة المتهالكة بما حَوَتْ. الحسنةُ في كل حشدٍ جديد هو الإضافة التِي تثمر مع الأيَّام إنسانًا أنضجَ عن ذِي قبل. بوضوحٍ أكثر، الإنسانُ الذِي لن يستطيعَ أن يحرزَ تقدُّمًا أكثر من تحقيقِ ذاتٍ تصلُ إلى وعيِ أنَّهُ إنسان. فالإنسانُ مجبولٌ على أن يتأرجحَ بين دفَّتي العقل والقلب، ومن ينسَى إنسانَهُ يميلُ لدفَّةٍ تحيلهُ عن القرار مطمئنًا ما دامَ يحيَا. على الترجيحِ السَّابق، يمكن البتّ في حفظِ الإنسان إنسانهُ. قد يبدو الحديث مُسرفًا في توصيف ماهية الإنسَان، لكنَّهُ الإنسان يأبَى أن يُعَرَّف!

يبدأُ الإنسانُ يومَهُ مُنشرحَ الصَّدرِ -افتراضًا-؛ فالشمسُ ألقَت عليهِ نورًا، فبددتْ كل ظلامٍ غرَّى خارجَهُ عدا الدَّاخل الذي لا يدركهُ سوادُ الليل. مَضَى الإنسانُ يسعى كما يفعلُ كل نهارٍ حتَّى العشيَّة. ما زالَ يمضِي دون وجهةٍ تعرِّفُهُ بإنسانهِ، فهو لا يكترثُ الآن لشيءٍ غير إيجاد نفسهِ في مادَّة أو حيِّزٍ في مكانٍ ما من هذا العَالم ليكون شيئًا!

بلا شك، لم يكن مشيُهُ في الفسيحةِ مُنبسطًا دون أفرادٍ يخطُّون الشوارع والممراتِ بأرجلٍ تتباينُ سرعتها. يمشي الإنسان وداخلهُ يرتفعُ حتى يقارعَ أعلى رأسه فيغشِّي عليه رؤية الإنسان الآخر. الآخر هنا المَعمِي عن عينكَ المَنسي هو مَن سيحُقق تحقُّق ذاتك إن أدركتَ إنسانهُ.



الثامن عشر من تشرين الأول 2016
الخُوْض

الجمعة، 14 أكتوبر 2016

نيَّة

اتركْ أي شيءٍ جانبًا حين تزورك نية الكتابة. النيَّة وحدها تحتاج اهتمامًا، وسعةً للنظرِ إليها بعينٍ واسعة الحَدَقة. الكِتابةُ لا تحتاجُ أقلَّ مما تحتاجهُ النيَّةُ لها؛ فالأولَى تشحذُ للثانيةِ تطلُّبًا أكبَر!

الأمْرُ أشبَهُ بما يحدثُ أثناء القراءة. أقرأُ بنيَّةِ القراءة قبل أن أقْرَأ، ثم أشرعُ أقرَأْ. النيَّة هي ما يتدخَّل في تحديد مساراتٍ محسومة سلفًا حتى وإن بدَت مختلفةً عن مسارها الآخر! يقودُ هذا إلى مساراتٍ أكثر تعقيدًا من تعقيد ثباتِ النيَّة وتغيُّرها. قد أقرأُ كتابًا نقديًا وأقفُ في إحدى صفحاتهِ عند بيتٍ شعريٍّ لابن الفارض: "يا صاحِبي، هذا العقيقُ، فقِفْ بهِ، متوالهاً إنْ كنتَ لستَ بوالهِ"، فأتركُ الكتابَ جانبًا وأذهبُ لمحركِ البحث راغبةً في قراءةِ القصيدةِ كاملةً، وأنسى الكتاب خلفي ومعه كوب شرابٍ ساخن ليبردَ وتبردُ نيَّةُ العودة لقراءتِهِ لأنَّ النيَّة شاءَت أن تكون للآخَر فتركت الأول. يعودُ هذا الموقف بي إلى موقفٍ سابق، حينَ كنت مغمورةً أتأملُ جمال لوحة "ليلة نجوميَّة" لفَان جُوْخ للمرَّةِ الثالثة، المرَّة الثالثة كانت مختلفة؛ أسرعتُ تحريكَ حَدَقتيَّ بين إضاءات اللوحة الصفراءِ ثمَّ الزُّرقة المَرميَّة كَسجَّادٍ فوق مَرمَرٍ أبيض. أتوقفُ لحظتئذٍ، فتنزلُ حَدَقتيَّ عن إطار اللوحةِ فلا تثبتانِ على سوادٍ ولا بياضٍ لأتذكَّرَ لوحتهُ الأخرى، "عبَّاد الشمس". أذهب مرةً أخرى لأبحث عن اللوحة فأتأكَّد من عامها الذي حيَّرنِي في حفظهِ، 1889 أم 1899، فأتبيَّنُ فيما بعد أنَّها وليدة سنة 1988 ميلادية. فيبدو لي بعدئذٍ، أنَّ النيَّة تتمحورُ حسبَ بدءِ الشيءِ وتوسطهِ لتقرّ على شكلٍ أوحد في النهاية إن لم تظهر مرة أخرى في ذات السياق.



الرابع عشر من تشرين الأول 2016
الخُوْض

الخميس، 28 يوليو 2016

شَجَرَةٌ (وصيَّة)

جبلَّةُ الإنسان أن يكبرَ ويفهمَ إنسانه شيئًا فشيئًا مع تزاوج الأيام التي تُنجبُ اللحظات والمواقف والإنسان أيضًا. فيتعلَّم هذا الإنسان منها ما يسهّل عليه أمر عيشهِ، وبقائهِ. مع اختلاف الظروف، تختلفُ معطيات التعلّم الإنساني؛ منَّا من يُعطى عيشَهُ لقمةً لقمةً على مهل ومنَّا من يتجرَّع مطبات الحياةِ من منتصف بلعومه حتى أخمص قدميهِ بسرعةٍ تُنسيه نزعته الكونية حتَّى يقفَ أمام الأحداث وكل ما سيمر الآن أو لاحقًا صامتًا مطبقًا شفتيه يزمّهما بمرارة محاولًا تخفيف وطأة الكلّ.
وهذا التفاوت سُنَّة كونية، كتعاقبِ الليل والنَّهار، واختلاف الألوان، وتعدد الطبقات. هذا الإنسان ليس مقطوعًا من شجرة كما يقولون، لكنهم يزعمون حتمًا. كُلُ واحدٍ منا مقطوعٌ من شجرة وإن شجَبَ الإنسان صدق هذا المَقول. يحسبُ الكثيرُ أن الانتماء والجماعة في أن تُحاط بأبٍ وأم وأخٍ وأخت وعم وخالٍ وبقية فروع الشَّجرة التي إليها تنتمي ويغيبُ عنهم كثيرٌ. لكِن هذا التعبير ساذجٌ ويستبعدُ ما هو أهم من كل ما سبَق وهو نوع العلاقة القائمة في ما بين الأفرع فقط. هل تُقرُّ بأنكَ فرعٌ في هذهِ الشجرة التي قد تتجاهل حقّك في أن تكون شجرةً أخرى؟ وتحاول أن تطبعَ عليك أوراقها حتى وإن حركتها رياح الصباح الخفيفة، وترسم لكَ مسارًا حسب ما ترتئيهِ غصونها المتدلية التي تأخذُ طريقها إليك فتعوقُ نموك أو توجّهه باتجاه محدد سلفًا حسب ما ساقَ. وما إن بزغ ضوءٌ عليكَ أخفتهُ بظلٍ وارفٍ بحجَّةِ حمايتكَ والحرص على نُضج عودك الذي لم يصطلب بعد. كل ما سبقَ محض احتمالات قد لا تجد مكانها من الواقع، لكنها قد تجده إن شئت أو هِيَ شاءت.

إن ما تفعله الشجرة أحيانًا يقتل فرعها وإن على الفرع أن يطالبَ بحقه كي يكون شجرة. دكتاتوريو اليوم لن يفهموا هذه الوصيَّة وإن فهموها فسيحنقون على كاتبها أيما حُنق. ذلك الإنسان الذي لتوّهِ بدأ يتعلمُ إنسانهُ لا يريد شيئًا أكثر من أن يُمنحَ حقه في أطوار التعلم هذا. بمُجَرَّد أن يُسْلَبَ هذا الحقّ يتيهُ فاقدًا كمن أُخذَ من دماغه عرقٌ فبات يصيحُ ألم الطَّعن، وبدون صوتٍ يُسمَع غير همهمات تتقطّع أحيانًا بين شفتيهِ. هل تساءل هذا الفرع ما إن كان الذي يجري داخله دمًا أم ماءً؟ إن كان دمًا فالأحقُّ أن لا يقرّ بفَرْعِيَّتهِ! وإن كان ماءً فعليهِ أن يتأكّدَ أنهُ فرعٌ لا محالة.

ومع تجاوز الأيَّام مراحل تعلمِ الإنسان إنسانهُ سينضجُ هذا الفرع ليحسم ما هو. إن تنصَّل من الشجرَة، فهو يحدد بذلكَ، ما كنهه وما يجعلهُ مختلفًا عن الأفرع الأخرى على الشجرة وما السائل الذي يجري بداخله، في حال وجود سائلٍ في الأصل!

سيجفُّ هذا الفرع من رطوبة تكوينه ليصبح عودًا رجلًا! وفي تلك الحين، ستغار الأفرع الصغيرة وتحسده على مآله الأفرع الكبيرة التي زاد جفافها مع الوقت. سيزدهي بنفسه قليلًا وهذهِ جبلَّة تستفحلُ بالإنسان متى شاء. لا يدري ذلك الفرع أن تصريحه استقلاله سيثير له المتاعب، في الوقت ذاته، سيُثير نَشْوته بأن أحرزَ تفوقًا في مرحلةٍ من مراحل تعلم إنسانهِ.
لن يتوانى الفرع، في الوقت الذي يتعلم فيه الإنسانُ إنسانه، أن يلقي بنفسه من الشجرةِ إلى الأعلى، عائدًا إلى الأرض التي سيقرُّ فيما بعد بانتمائهِ لها وأنها اعتلاقٌ أبديٌ له، وسيوصِي الأرض أن تهدّ ما سينبت عليه من أفرعٍ بعد أن يصبح شجرة ليكون انتماء الإنسان فيما بعد لأرضهِ لا لشجرةٍ نبتت عليها ذات قدر.


العاشر من تمُّوز 2016
صُوْر

الثلاثاء، 28 يونيو 2016

الكِتابةُ الذَّاتُ

مما لا يختلف عليه اثنان الحقيقة ذات الشكل الأوحد المتعدد في أخيلة البعض. ومن هذا أنكَ ما إن تبدأ الكتابة يحدق بك خطر التوقف عنها. وعلى شاكلتها، أن أحدَ الصباحات الصفراء لم يغفل عن مشهد الامتدادات الذهبية التي تأخذ طريقها إلى كل ساكن من نافذة الغرفة، تلك هي بقايا ما أخرجتهُ الشمس، ولا تتوقف عن التمدد حتى تزاحم أذني طيور الصباح فتَجُنُّ الحياة. وما أسنَى أن يَهِبَ الإنسان على بكرة الصباح عقلهُ لكونٍ أصبح يُسبّحُ فيسبحُ الأول أيضًا ليأخذ من الثاني وضاحتهُ. وفي الحقيقةِ، نحنُ من نعطي الصباحَ وضاحته إن شِئنا.

الحَقُّ أن الكتابة هي ما تفعله حين تَشعر بمتحركٍ غير مرئي داخلكَ يحثّكَ على التحرك ومحاولة جعله ساكنًا على ورقٍ أو مستندٍ إلكترونيٍّ بطقطقةٍ حرَّكها عقلٌ ساكن متحرك بشكل غير مرئي أيضًا ليصبحَ في آخر المطافِ ساكنًا خارجَ نفسكَ بشكل غير متطابق كُليًّا مُتحركًا داخل نفسٍ أخرى. إن هذا شبيهٌ بما تفعلهُ الذات كتابةً لكن يعوزها القلم أو الجهاز الذي يحوّل المكنون مكشوفًا.

تكتبُ الذات في حالاتٍ كثيرة يفهمها الكاتب وقت امتناعه عن الجلوس أمام جهازهِ أو على مكتبهِ أمامهُ قلمه وورقه ونفسه إن أراد، ولا يفهمها على نحو واضحٍ في أي وقتٍ غير ذلك. تكتبُ الذات في هذه الحالات ما لا يستطيع كتابته كاتبها بالكتابة لُغةً مقروءة. تكتبُ الذاتُ في الحقيقة ولا تتحدث. الحديث كلامٌ يُقال والمكتوبُ كلامٌ يتحدَّث. وما أفعلهُ الآن أنني أتحدَّثُ بالكتابةِ وهذا ما أفعلهُ أنا لا ما تفعلهُ ذاتِي.

الثامن والعشرون من حزيران 2016
صُوْر

الأحد، 19 يونيو 2016

مَخَا: أول نصٍّ أدبيٍّ

ليس سهلًا أن تلفظ الذاكرة ما اعتلقها عنوة منذ زمن. عنوة؟ أعني برغبة مني أو دون رغبة. لم يُكتب لي أن أعيش مدةً أطول في حوش بيتنا القديم، أحد بيوت حارتنا الذي بُني على طراز قديم، لكن حظيت بالفترة الأطول بين إخوتي على الأكثر. الحارة القديمة التي ما زلت أصرح بانتمائي الدائم لها إن سألني سائلٌ، "من أيِّ بقعة أنتِ؟". نولعُ بالشيء أكثر ما إن يصبح قديمًا. مَخَا، أحب أن أنطق اسمها مُطْلِقَة فَايَ لثانية بعد فتح خائها. حارة البيوت الطينية القديمة والسكك الضيقة التي تمتد على جانبيها جدران نقعتها ملوحة أرضها ليظهر ما خفي من الحجر والطين وأيبستها شدة حرارة الشمس التي تشبه إلى حد كبير حرارة أهلها. جيرانُها أهلٌ قلوبهم أقرب إلى بعض من مسافة بيوتهم المتراصّة إلا قليلا. أشتاق لسُكْنتها في الحارة الجديدة، ولم أستطع أن أجردها من صفة الجِدَّة رغم مضي ما يزيد على 7 سنوات منذ أن أقمنا هنا وسط بيوتها. لا ينفصلُ ذكر مخا عن ذكر خور البطح، على وجه الخصوص عصرُهُ الأزرق المائل إلى الأبيض الذي قلما يخلو من أصوات نوارس الخور. أكتبُ هذا وأتذكر لحظاتٍ انقضت حين كنت أرافق والدي وأجلس إلى جانبه مع رفاقه أمام الخور أحملقُ في البعيدِ لا أعلم أين أنظر تمامًا. أذكر كيف كان يمتعني النظر إلى البحر الذي كلما أبعدت النظر في امتداده أوغل في زُرقته وانتهى. أدمنت النظر في عبّارات* الخور وقواربه وناسه ونوارسه، فغدَا بعد ذلك ذاكرةً لا بُدّ أن تُسجَّل.

حثثتُ الخطى متجهة إلى جهازي لأكتب بعد 3 سنوات عن مخا وخورها. كتبت فيها بقلب ذاكرٍ لميثاق الحُب الأقدم ما امّحى. وفي منتصفِ الكتابة تلك، أغمضت عيني أستذكرُ أيامها وحُلْوها فأبتسم وأكمل الكتابة لا أود أن أنتهي. من يحب شيئًا لذاته لا يرضى أن يرى له ندًا. وهكذا أحببت مَخَا أيضًا. وأسائلُ نفسي هل يستطيع أحد أن يغفل عن حب أرضهِ؟ الانتماء مسألة مقضية كما أحسب، هناك رابطة أخرى لا أستطيع توصيفها في الواقع تصفُ اعتلاقي مَخَا. البحرُ بحرٌ واحدٌ في نظر كثيرٍ من البشر، لكن رأيتُ بحر مدينتي الذي يطلُّ على يابسهَا، بادِئًا من هذا الخور مختلفًا اختلافًا يجعلهُ جميلًا في ناظريّ بل الأجمل. السكك والشوارع في كل مكان تتخذُ أشكالا متقاربة، هكذا يقول العامّة، وأجدُ قولهم خيبةً حين أتحدثُ عن حارتي القديمة، مدينتي الأجمل العائمة السمراء.
والآن بعد سنواتٍ من كتابة أول نصٍّ أدبيٍّ، أكتبُ ولا ينقطع عن بالي أثناء لحظات كتابتي هذا النَّص اسم ناصر البلال المخينِّي الذي أحبَّ صُوْرَ وشغفتهُ حُبًّا. لا أغار في حُب صُوْر غيرةً كغيرتي من حُبِّ الفينيقيّ الأخير رحمهُ الله. أذكرُ بركة هذا الحبِّ وفضله عن كثيرٍ من الحُب؛ فقد جعلني أتكلم بحديثٍ لم أكن أعلمه إلا نَزْرًا، وعلَّمني أن أكتبَ في الأوراق، وأدخلني صومعة الآداب.

التاسع عشر من حزيران 2016
صُوْر

السبت، 18 يونيو 2016

ليلُ القراءَةِ

انتهى هذا الليل حالُه حال أي ليل آخر من بقية الأيَّام قراءةً. يدخلُ عليَّ الليل بقدمين ناعمتين خفيفٌ طرقهما يكاد لا يُسمَع، فَيأخذُ طريقهُ آمنًا سالكًا رفوف مكتبتي وأسفلَ الطاولة ليرسم تحتها ظلًّا ويمين ستارةِ النافذةِ وأعلى رأسي! أحبُّ الليلَ شديد السواد، الذي يأبى إلا أن يكون الأحلك على وجهِ البسيطة ليلًا، يأخذُ من كل سوادٍ في الأرضِ سوادًا كيلا يقارعه أحدٌ في الحلكةِ، وشأنُ الليلِ هذا شأنُ أيِّ طِيني يمشي على طينهِ ويتسنَّمُ فيه وعليه وبهِ.

أعودُ لغرفتي وليلِها. كل شيءٍ هاجعٌ إلا من الليل، وطقطقةِ مفاتيح الجهاز وأنا. على يميني الشاي الذي يبدو أنه برد ولم يعد يحمل من صفة الشاي طعمًا! لا تعرفُ عيناي الثبات، أُقلِّبُ بصري يمنةً ويُسرةً فيقع على نظارتي الطبية ذات نصف العقد وأنتوي أن أغيرها بأخرى ولا أود هجرتها هيَ أيضًا. وتستلقي على نهاية حواف الطاولة كتبٌ يستنفرُ بعضها الآخر، كتابٌ في الأدب الإنجليزي وآخر من الأدب العماني القديم وبينهما كتابٌ في الفقه كُتِبَ بخط اليد، في الواقع لا تختلفُ الكتب عن حال كثيرٍ من البَشر إلى حدٍّ ما، فحُبُّها قد يمتاح من صفةٍ بشرية كما قد يمتاح حُبُّ الآخر من أصلٍ كُتُبِيٍّ! ولا نعلم مكمن الصواب لكثرة الاحتمالات التي تحيط بنَا.

لا يزال كتاب البؤساء يستريح على طاولتي منذ أن أخذته أختي الصغيرة لتقرأه بعد استجداءٍ خفيف للقراءة قبل أسبوعين. ولا تزال عبارتها بعد أن أخذت في الرواية نصفها ترسم نصف ابتسامة على وجهي وأتذكر مَقولها: "عهود تراني أني كوزيت، اعتبريني شخصية كوزيت".

الكثير من الصناديق وردية الجلدِ تركن بعشوائية فوق طاولتي ولا أعرف إليها سبيلًا إلا بعد أشهرٍ، رغم رغبتي في فتحها أحيانًا وقت المطالعة أو الكتابة. الكتابة والقراءة تسلبانكَ الاهتمام لأي مُزهرٍ أو كائنٍ آخر يحول بينك وبينه مسافة النظر. هذا الذي تفعله لذة الانغماس في الشيء باعثٌ لِحُب الشيء. وهذا الليل رغم سواده أضاء كي أنتبه لما أهملتُ على طاولتي. الدفتر الأزرق المنسي وكتاب ينحشر وسطه قلمٌ تحمل انكفاء الأوراق عليه لأشهرٍ وكأسُ ماء فارغ.

أقفُ لأعيدَ كل شيء إلى حيث ينبغي وأرجع الكتب إلى أخواتها وأنظرُ بأسى مرةً أخرى لكوب الشاي البارد جدًا فأزمٌّ شفتي وأرفع يدي على وجهي وأنهي آخر كلمة في الملف على مَضضٍ ليبدأ ليلُ القراءة.

الثامن عشر من حزيران 2016
صُوْر

الثلاثاء، 14 يونيو 2016

لُغَةٌ

في كل مرَّة أهمُّ لشيءٍ يشبه فعل الكتابة -لا الكتابة ذاتها- أشعرُ بخذلان طفيف للغةِ التي ما تنفكُّ حتى تجعل مني إنسانًا لغويًا يداري ما يمور داخل اللغة وخارجها ويتوخى أن يتخذ مسارًا لغويا غير ما يمشي عليه العامة في عُرف اللغة إيمانًا منه بأن اللغة تابوهٌ لا ينبغي التفريط فيهِ والإفراط. وأرى حظوة اللغة أجمل قدرٍ يمكن أن يحظى بهِ أي مغمور في اللغة مأخوذ بسطوتها. وأيضًا ما يبعث إلى الخذلان الخفيف هذا الفجوة الزمنية التي تحول دون كتابة آنية والتي ما إن زادت زادت معها درجة الخذلان..

اللغة ليست -كما يروج له البعض- أداة أو وسيلة بل الغاية في الغاية التي تُرتَجى. وبدون الغايَة لا تكتمل الوسيلة التي تَمْثُل في الكتابة. على خلاف ذلك، ما زلت أعد الكتابة غاية تفضي إلى غايةٍ أخرى.

لا أرمي -من سابق الحديث- إلى إلباس نظرتي إزاء اللغة بمعطف يكسوه الأسود وتتباعد فيه البقع البيضاء إنما يحلو لي أن أبرز ما يشبه الغيرة اللغوية وأبدو الكائن "المتفرد المتنزه [بلغته]"!
ومن نافل الحديث الذي أتنزه به الآن، أحبُّ أن أشيرَ إلى من يتنزه بلغته ويتقنها بل ولسانه فصيحٌ بها وأُكْبِر أمثال هؤلاء بين قومهم؛ فهم يحملون لواء قلَّ من استطاع إليه سبيلا!

في موقفٍ كهذا، لن يغدو قولي في عدد المرات التي محوت فيها كلامًا عرفت فيه المعنى وخُذلت بالمبنى -حين تسنمَ بي فقه اللغة خاصتي- أمرًا مهما وإنما ترفًا مقيتًا.

ومن الظريف أن تلازمني التشجنات اللغوية التي أتوخى حتى هذا السطر  حتى أنتهي لُغَةً. أتذكر بهذا مسخ كافكا الذي انبرى من حشرةٍ داعبتها مخيلة كاتبٍ فاستحال مسخًا، ومثلما أجادَ كافكا التنزه بلغة الكتابة لصوغ غايتهِ، أنبري أنا من خضمّ اللغة، بسيميائيتها وتشنجانتها في مرحلة صيرورة لغوية تصيّرني لغة.

هذا ما يحصل تمامًا، اللغة تستدعي أن تفكّر على نحو غير اعتيادي أن تتمرد أن لا ترى في اللغة إلَّاك. أعي أن ما سبق قد يبدو مبهمًا للبعض، فاللغة تجرّكَ لأن تهذي دون قدرة على تركيز أوحد ما إن انفلتّ من رباط الفكرة. وفي هذهِ الحالة تتجلى أشد أشكال العزلة وضوحًا؛ اللغة والكتابة أرض وسماء لكون الكاتب المغمور.
أعود لأقول ما كان عليَّ قوله مبكرًا، جمال اللغة جمالٌ لمن أجادها، والجمال الذي أعنيه في الواقع الدَّعة ما إن رافقتك أمنتَ داخلكَ شريطة أن تتعاطى مع اللغة بنفسك بعيدًا عن المعطيات المعدة والقوالب الجاهزة التي لن تنتهي حتى تجعل للغة شكلًا فردًا، وفي قول مقارب، حتى تكتب (موت اللغة).


الرابع عشر من حزيران 2016
صُوْر